للتواصل معنا 37492352

الجمعة، مارس 16، 2012

قراءة في كتاب : “في ضيافة كتائب القذافي” بقلم محمد الحافظ الغابد

 لئن كانت الثورات العربية قد اقتلعت العديد من أنظمة الحكم المتسلطة في البلاد العربية وفتحت المجال لتحولات ستكون لها آثار هي الأعمق في التاريخ العربي المعاصر فإنها أيضا فتحت ميدانا فسيحا لأجناس من الفكر والفن والأدب لم تكن مسبوقة من قبل في التاريخ الأدبي المعاصر في البلاد العربية التي طالما وصفت بالسكونية والجمود في وجه التحولات الدولية والإقليمية.


وفي هذا السياق يتنزل كتاب “في ضيافة كتائب القذافي” للصحفي بقناة الجزيرة أحمد فال ولد معلوم الدين الذي نرى أنه من الأعمال الأدبية التي تخضع لتنازع العديد من الأجناس الأدبية بدئا بالسير والأيام والقصص والتاريخ و ونرجح أن هذا العمل المفعم بالتوثب النفساني والصدق الإنساني إذا ما دققنا النظر في جوانب عديدة من بنائه المعماري والهندسي آوى إلى ركن مكين “في السرد الروائي” وتميز بالعديد من خصائص الفنون الروائية المبدعة والممتعة ولم يخل من بصمات الأصالة في التعبير مع رشاقة بارزة في الصياغة ابتعدت عن التعقيد مع بعث لافت لمفردات لغوية تراثية تتوارى بعيدا عن المتناول في الأسلوب اللغوي الدارج.
 توليف الشظايا
يقع الكتاب في حوالي 250 صفحة من الحجم المتوسط A4 وتبرز براعة الكاتب الفنية في كونه تجاوز الاستطاعة المجردة في جمعه الشظايا المتنافرة وتوليفها إلى مستوى الإبداع في تثوير الحكاية من الداخل بأسلوب سردي يلقي الأضواء بسرعة اللقطات التلفزيونية السريعة الإيقاع دون أن يرسف في قيد الحكاية المُبَطِّأْ وأظن أن هذا يبقى أحد العوامل الرئيسية التي أضفت نجاحا كبيرا على النص وجعلته يستفيد من الخلفية المهنية للكاتب حيث تتزاوج الصورة والنص في تسجيل الوقائع على طريقة التقرير التلفزيوني القصير والقوي من حيث حجم التأثير الإلقائي في كثافة وحيوية بارزة.
وقد نجحت الحبكة الروائية والحكائية للعمل في التنقل بسهولة ويسر بين المواضيع والأمكنة والأشخاص ونجحت اللغة الشعرية في إخصاب الحقائق والوقائع حتى داخلت الإيحاءات وأساليب الربط والإحالة ما بين الحقيقة التاريخية والواقع المعاش أو المتخيل وهي كلها عوامل كثفت النص وأضفت عليه عبقا خاصا ودفئا يتميز به في سياق الأعمال التي تتنازعه أجناسها.
 ثورة نفسية
يحس القارئ للكتاب بأنه جاء نتاج ثورة نفسية عارمة متعددة الروافد كما كشف بشكل لافت نفسية الكاتب الثائرة وما يعتمل داخلها من كوامن وبراكين هامدة استعادت الهياج والثوران هي الأخرى في سياق العروبة الراهن.
يصف النص عشرات الخلجات النفسية بصدق كبير ففقدان الجسد لحريته وتحوله فجأة إلى كومة مركومة بين يدي السجان ترك مؤثراته وحفز ذاكرة الجسد على العمل بشكل غير مسبوق وفي كل الاتجاهات والأبعاد وتركت عصائب العينين لمدة طويلة مجالا فسيحا للخواطر ووفرت للنفس سبحا طويلا وجولانا غير محدود في الماضي والحاضر والمستقبل ونشطت أسئلة المصير نشاطا منقطع النظير لم تعرف له مثيلا من قبل … ولكن كل ذلك الثوران النفسي والاشتعال فجر للنص الذي نقرأ منابع وحفر له في أرض القلب والفكر حفائر ملآنة منها استقت الرواية ونهلت ثم علت من عذب الذكريات المطمورة والتجارب التي شق عنها الثوران لحودها فاستوت باسقة كخلة المعتقل التي عانقتها الروح وتمسحت بعسبها ولخافها كما يتمسح الحاج بالكعبة المشرفة.
ومبدع النص في هذه التأملات يستأنس بتجربة صقر قريش ويستن بأثر بن عمر “فوقع في نفسي أنها النخلة”في اختبار المرشد بالوحي صلى الله عليه وسلم في الأثر الشهير لجمع من الصحابة .. إنه الوقع النفسي المؤثر متعدد الروافد والصور والأخيلة والأبعاد يضع هذا النص في مصاف الأعمال الأدبية النادرة إذا ما استحضرنا أهمية صدق المشاعر النفسية وتأثير ذلك في القيمة الإنسانية للعمل الفني طبقا للعديد من نظريات النقد المعاصر.
لحظة الحرية
يؤرخ هذا العمل في سرده الذاتي لتجربة شخصية في التعاطي مع حدث الثورات العربية ويجيب على سؤال هام كيف نظر المواطنون العرب من زاوية الرصد الذاتي الشخصي لهذه الثورات في الأقطار الشقيقة الأخرى كيف واكبوها وكيف انفعلوا بها، كما يؤرخ من جانب آخر لتعاطي قناة الجزيرة مع هذه الثورات عموما ومع حدث السبق والتفرد الصحفي بوصفه أهم ضمان في تقاليد مؤسسات الإعلام للتميز في الأداء فضلا عن دوره في الحفاظ على الريادة والمنافسة.
والبعد التأريخي الأهم يتمثل في توثيق حقيقة احتجاز فريق قناة الجزيرة من قبل كتائب القذافي ذلك الفريق الذي غامر بولوجه فكي كماشة النظام المفترس لرصد الفعل الثوري في الغرب الليبي وتحديدا في مدينة الزاوية ذات التاريخ التليد والمجد الطارف في مقارعة الطغيان في بعدي الغزو الأجنبي حيث كانت تلك التلال أول بقعة في الأرض تقصف من الجو… وهاهي اليوم تصل ما انقطع من ماضي الصمود بحاضر الانتفاض والانقضاض على حكم الطاغية.
يقدم الكتاب صورا حية لواقع القتال في الزاوية ويوضح كيف أن الثوار الليبيين لم يدخلوا الحرب مختارين ولم يستعدوا لها ذلك أن آلة القمع التسلطية لدى النظام هي التي فرضت عليهم الحرب فرضا.  
إنه تاريخ يستحق التسجيل ومن الواضح أن المقادير رصدت له أفضل وسائل العصر لتسجيله ليكون ذكرى تجدد ما انطمس في وعي الأجيال لتكتمل به عناصر انبعاث الأمة المغيبة خلف عباءة ملك ملوك إفريقيا.
ويتطرق السرد ليعطي للقارئ تفاصيل دقيقة عن عمل قناة الجزيرة ويجيب عن الأسئلة الإكلينيكية المتعلقة بأسلوب وكيفية إدارة مناطق الأحداث الساخنة ويكشف جوانب من إدارة القناة لأزماتها مع الأنظمة فيما يتعلق بعمل الفرق والمكاتب وحيثيات التعامل مع العديد من المواقف الحرجة من حيث التعمية واستخدام الأسماء المستعارة ذلك أن الوصول لحقيقة الحدث هو جوهر الرسالة الإعلامية إضافة للانحياز للمواقف الإنسانية التي تعاني الآلام خلف المتاريس والمخاطر.       
المشاعر الإنسانية
الظاهرة البارزة في هذا العمل هي سهولة انتقال الكاتب في استعادة الأحداث والمشاعر الإنسانية التي عاشها طيلة أيام سجنه فالحديث عن تفاصيل الاشتباكات الدامية في الزاوية لا تتنافر واتصالات الأم من العاصمة الموريتانية نواكشوط طالبة تفاصيل تتعلق بالعلاج لدى الطبيب في تونس ونجح النص في دمج منولوج الوالدة عائشة وهواجسها القلقة في ربط وجود ابنها الصحفي على حافة مخاطر الثورات الهادرة وأملها في أن يكون بعيدا عن الخطر..وتفاصيل الدخول للغرب الليبي ومحاولات الخروج منه وإيقاعات وقوع المحذور سجنا وتحقيقا.     
حركة التاريخ
في ثنايا هذا العمل السردي الروائي تحليل عميق لحركة التاريخ العربي المعاصر ونظرات في إلى أعماق شخوص وأنفس وتصوير دقيق لسلوك أنظمة حكمت الناس والمجتمعات الثائرة حاليا لإعادة تشكيل الحياة التي تسلقها في لحظة ما من ليل العرب المدلهم جنرالات وعساكر حولوا الأمن إلى خوف واتخذوا من القمع وسيلة للاحتفاظ بالسلطة دون رقيب شعبي أو حسيب.
 في هذا العمل يجد الباحث عن ضالة الأديب ما يبتغيه نثرا وشعرا ووقائع وصورا ويرى المؤرخ  ما يشبع نهمه من أخبار أيام الثورات وجوانب من خواطر السجين وتجارب التحقيق وأساليب ضباط المخابرات في النقاش والإقناع إضافة لوصف صادق لمشاعر السجين وإحساسه بقيود الزمن وحركته البطيئة والمملة.
والقارئ لهذا الكتاب ملامس لا محالة جوانب من سيرة الصحفي وصفحات مطوية من تاريخ قناة الجزيرة وفرق عملها كما هو مكتشف زوايا من الربيع العربي وصفحات مشرقة من نضال الشعب الليبي المجاهد الذي غسل في أشهر محدودة ما تجمد من سوء على صفحة الفخار الليبي بفعل أربعينية أبي منيار
 * نقلا عن مركز الدوحة لحرية الإعلام

ليست هناك تعليقات: